28 يناير 2012

ثورة يوليو في الوثائق البريطانية


ثورة يوليو في الوثائق البريطانية - هدى جمال عبد الناصر


دراسة للدكتورة هدى جمال عبدالناصر قدمت الى ندوة" وثائق تاريخ
العرب في الارشيفات العالمي"

فيما يلي نص الورقة تعتبر الوثائق البريطانية مصدرا مهما وثريا
للدراسات في تاريخ مصر وخاصة منذ الاحتلال البريطاني عام 1882،
حيث تدخلت بريطانيا في جميع الشئون الداخلية المصرية، فحوت تلك
الوثائق ادق تفاصيل مختلف اوجه الحياة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وحتى الخاصة، في مصر، واستمر ذلك حتى توقيع اتفاقية
الجلاء في 18 اكتوبر 1954، وتصفية القاعدة البريطانية في منطقة
القناة، والقضاء على النفوذ البريطاني برمته بعد العدوان الثلاثي
على مصر في 1956.
وعندما قامت الثورة في 23 يوليو 1952، كانت السيطرة البريطانية
محكمة على البلاد، بالرغم من تركز القوات العسكرية البريطانية في
منطقة القناة، ولذلك توافرت في دار الوثائق البريطانية كميات
هائلة من الوثائق الخاصة بمصر في ذلك الوقت.
وقيمة هذه الوثائق في انها تتصف بالتنوع والشمول، فلم تقتصر على
المراسلات بين السفارة البريطانية في القاهرة ووزارة الخارجية في
لندن، وانما تحتوي ايضا تسجيلا للمناقشات حول مصر في مجلس
الوزراء البريطاني والمذكرات التي عرضت عليه في هذا الشأن، وكذلك
المذكرات الصادرة من رئيس الوزراء ووزير الخارجية ومساعديه
ورؤساء الادارات المختلفة بالخارجية البريطانية، كما تشمل ايضا
جميع التقارير الواردة من الوزارات الاخرى المتعلقة بصنع السياسة
البريطانية تجاه مصر، وكذلك محاضر مناقشات مجلسي العموم
واللوردات كما وردت في مضابطهما في نفس الموضوع.يضاف الى ما سبق
ايضا المراسلات بين قادة القوات العسكرية البريطانية في مصر
ووزارتي الحرب والخارجية البريطانيتين.

كما تضم الوثائق البريطانية كل ما يتصل بمصر في اي بلد في العالم
وفي المنظمات الدولية، مثل الامم المتحدة وحلف شمال الاطلسي ومما
يزيد في اهمية تلك الوثائق للباحثين أن بعضها كان يكتبه الخبراء
البريطانيون الذين كانوا يعملون في مختلف وزارات الحكومة المصرية
بمرتبات منها، وظلوا في مواقعهم حتى بعد عقد معاهدة 1936 بين مصر
وبريطانيا، التي تحول بمقتضاها المندوب السامي البريطاني الى
سفير له اقدمية على باقي السفراء في مصر محتفظا بنفس نفوذه
السابق، وظل رئيس البوليس المصري بريطاني يتلقى تعليمات مباشرة
من لندن.
ولكن، من جانب اخر، ينبغي توخي الحذر في استخدام الوثائق
البريطانية كمصدر للمعلومات التي تبني عليها الدراسات
الاكاديمية، فهي تعكس بالدرجة الاولى رؤية محرريها وآرائهم،
وبالتالي فأن المعلومات الواردة فيها لا يجب أن تؤخذ كشيء مسلم
به، بل ينبغي على الباحث أن يعمل على تقييم هذه المعلومات
وتأكيدها من مصادر اخرى حتى يصل الى الحقيقة. الا انه تجدر
الاشارة الى أن قيمة الوثائق تزيد كمصدر للبحث اذا كانت متعلقة
بالاهداف السياسية البريطانية بالنسبة لقضية معينة، وتقديرها
للموقف الذي على اساسه يتم صنع القرار، فهي هنا تصبح مصدرا من
الدرجة الاولى بالنسبة للباحث.
ولقد كانت بريطانيا طرفا في صراع مع مصر امتد منذ الاحتلال
البريطاني في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، واشتد مع تصاعد
الحركة الوطنية المصرية بعد الحرب العالمية الاولى، التي قادت
الى ثورة 1919 وما نتج عنها من استقلال اسمي لمصر في عام 1922،
ولكن ذلك لم يمنع من استمرار هذا الصراع حول تمكين الحكم
الدستوري وتحقيق الجلاء. وبعد قيام ثورة يوليو 1952 اصبح هذا
الصراع اشد ضراوة ووصل الى مؤامرة العدوان الثلاثي على مصر عام
1956. ولقد جعل هذا الصراع المستمر بين مصر وبريطانيا الوثائق
البريطانية ذات قيمة كبيرة للباحث، حيث يجد بها تفسيرا لكثير مما
يتعلق بالطرف الثاني من الصراع، من حيث المعلومات التي لديه عن
الموقف الذي يدور حوله الصراع وتحليله لها، والتحالفات والتحركات
والوسائل التي يستخدمها لتحقيق اهدافه سواء كانت سياسية او
اقتصادية او عسكرية او اعلامية ودعائية.
ولكن ينبغي الاشارة هنا الى أنه ليست كل الوثائق تفتح لاطلاع
الباحثين بعد ثلاثين عاما، وانما هناك وثائق تعدم، واخرى تظل
مغلقة الى الابد، وبعضها يفتح بعد اربعين عاما او خمسين عاما او
خمسة وسبعين عاما، او مئة عام، كما حدث مثلا بالنسبة لوثائق
عدوان يونيو 1967.

وفي معالجة هذه الورقة لثورة 23 يوليو 1952 في الوثائق
البريطانية تقسم الى الاقسام الاتية:

اولا: مقدمات ثورة يوليو في الوثائق البريطانية.

ثانيا: الرؤية البريطانية لاحداث الثورة.

ثالثا: الصراع بين الثورة والاحتلال البريطاني.

رابعا: الثورة كمصدر تهديد للنفوذ البريطاني والمصالح الغربية.

اولا: مقدمات ثورة 23 يوليو في الوثائق البريطانية

تعتبر الوثائق البريطانية مصدرا غزيرا للمعلومات المتعلقة
بمقدمات ثورة 23 يوليو، فقد فتحت كثيرا من هذه الوثائق لاطلاع
الباحثين بعد ثلاثين عاما من تاريخها، كما فتحت كذلك باقي
الوثائق التي كانت مغلقة لمدة خمسين عاما، ولم يتبق سوى ستة
ملفات فقط مغلقة حتى عام 2011، الاول بعنوان مصر، والثاني عن
العائلة المالكة والقصر، واربع ملفات بدون عناوين.
ونبدا اولا بتحديد ما الذي نقصده بمقدمات ثورة 23 يوليو؟
نستطيع أن نقول أن الشعور الثوري في الجيش بدأ في عام 1942 عندما
اقتحمت الدبابات البريطانية قصر عابدين وحاصرته، وفرض السفير
البريطاني «مايلز لامبسون» على الملك تولي حزب الوفد الحكم
برئاسة مصطفى النحاس، وقد اعتبر ضباط الجيش هذا الحدث بمثابة
اهانه للشرف العسكري والشعور القومي. وقد توالت بعد ذلك احداث
وظروف يمكن اعتبارها المقدمات الاساسية لثورة 23 يوليو نقتصر في
هذه الورقة على عرض ابرزها.
1- حرب فلسطين، وما ارتبط بها من قضية الاسلحة الفاسدة التي دفعت
ضباط الجيش الى التصميم على العمل للقضاء على الفساد في القاهرة
بعد رجوعهم من ميادين القتال. وتوضح الوثائق البريطانية وقائع
قضية الاسلحة الفاسدة بالتفصيل من خلال عشرة ملفات كاملة، اربعة
ملفات عام 1948، واربع ملفات عام 1949، وملف واحد لكل من عامي
1950 و 1951. وتلقي الوثائق البريطانية بمسئولية صفقات الاسلحة
الفاسدة على مجموعة من كبار قيادات الجيش، ومن ابرزهم الفريق
حيدر باشا، وزير الحربية، والادميرال احمد ندر، رئيس اركان
القوات البحرية واحد افراد الاسرة المالكة. ويتضح من تلك الوثائق
أن صفقات الاسلحة الفاسدة لم تتم اثناء حرب فلسطين فقط، بل امتدت
حتى منتصف عام 1949. وترصد هذه الملفات مدى الشعور بالغضب الذي
كان سائدا في صفوف الجيش بصفة عامة والمشاركين في حرب فلسطين
بصفة خاصة، وذلك لشعورهم بأنهم طعنوا من الخلف اثناء حرب فلسطين.


وكذلك هناك وصف لحالة التذمر والغضب العارم بين ضباط الجيش في
عام 1951، عندما قرر الملك فاروق اعادة الفريق حيدر باشا مرة
اخرى ليكون رئيسا لاركان الجيش، بالرغم من تورطه في قضية الاسلحة
الفاسدة. فساد الحياة السياسية وانقسام الاحزاب السياسية وتداول
السلطة بينها في دائرة مفرغة، تقوم على التدخل غير المشروع من
جانب البريطانيين في الحكم، والتلاعب غير الدستوري من جانب القصر
في الحياة السياسية. وهنا ترصد الوثائق البريطانية واقع الحياة
السياسية في مصر من خلال سلسلة من الملفات تحت اسم «الوضع
السياسي في مصر» ويبلغ عدد هذه الملفات 35 ملفا في الفترة من
1949- 1952.
وتكشف هذه الملفات عدم الاستقرار السياسي الذي كانت تعاني منه
مصر، حيث كانت رغبات السفير البريطاني واهواء الملك هي المحدد
الاساسي الذي يتم على اساسه اختيار الوزارة التي تتولى مقاليد
الحكم. كما تسجل هذه الوثائق تفاصيل كثيرة عن التغييرات الوزارية
المتعاقبة التي كانت تحدث على فترات متقاربة جدا، فبعض الوزارات
لم تمكث في الحكم سوى اسبوع واحد، واخر وزارة قبل الثورة استمرت
يوما واحدا.
وتسجل الوثائق تدني شعبية جميع الاحزاب السياسية، بما فيها
الوفد، نظرا لتورط قادة هذه الاحزاب في العديد من قضايا الفساد
التي كشفتها الخلافات الشخصية بينهم والانقسامات الحزبية، مثل ما
ذكره مكرم عبيد في «الكتاب الاسود» من تجاوزات القيادات الوفدية.
ويضاف الى ما سبق تفاصيل الممارسات السياسية التي تؤكد عدم وجود
ديمقراطية داخل هذه الاحزاب، وتسابقها في ارضاء الملك والانجليز
على حساب المصلحة العامة للشعب، مما ادى الى انفصال هذه الاحزاب
عن قواعدها الشعبية. ومن ابرز الامثلة على ذلك ضعف المشاركة
السياسية في انتخابات مجلس النواب عام 1950 وبصفة خاصة في المدن
الكبرى، حيث لم يتعد المشاركون في التصويت نسبة 20% في مدينة
القاهرة. اما ازدياد نسبة المشاركة في الريف، فترجع الى قيام
كبار ملاك الارض الزراعية باجبار الفلاحين على الادلاء بأصواتهم.
سيطرة الاقطاع ورأس المال على الحكم وتفشي البؤس وانخفاض مستوى
المعيشة لعامة الشعب.
وتعتبر الوثائق البريطانية احد اهم المصادر لمعرفة الاوضاع
الاقتصادية لمصر في فترة ما قبل الثورة، نظرا لتغلغل النفوذ
الانجليزي في جميع نواحي الحياة في مصر. فلقد كان هناك رصد مستمر
من قبل السفارة البريطانية عن الحالة الاقتصادية في مصر،تدون في
تقارير شهرية وضعت في ملفات تحت اسم «الوضع الاقتصادي في مصر».
وتكشف هذه التقارير عن مدى سيطرة الاجانب وكبار ملاك الارض
الزراعية على الاقتصاد المصري وتمتعهم بثراء فاحش، في الوقت الذي
كان يعاني فيه غالبية الشعب المصري من الفقر وتدني مستوى
المعيشة. فشل جولات المفاوضات المصرية، البريطانية المتعددة من
اجل تحقيق مطلب الجلاء، والانتقال في عام 1951 الى الكفاح المسلح
ضد العسكريين البريطانيين في منطقة القناة الذي شارك فيه شباب
الضباط المصريين. وتسجل الوثائق البريطانية بالتفصيل جولات
المفاوضات المتعددة التي عقدت بين الحكومات المصرية المتعاقبة
بريطانيا. ويزيد عدد الملفات التي تتناول هذه المفاوضات على 350
ملفا، وهي تغطي الفترة من 1946 الى 1951.
وتشير هذه الوثائق الى قيام الحكومة البريطانية بربط موافقتها
على الجلاء عن مصر، بموافقة مصر على الدخول في علاقة تحالف دفاعي
معها، يتيح لها ابقاء قوات عسكرية بريطانية في قاعدة قناة السويس
بصورة دائمة، تحت ذريعة مواجهة الخطر السوفييتي. وتكشف الوثائق
البريطانية النقاب عن وجود خطة بريطانية وضعها الكولونيل
«جينينجز براملي» في عام 1951، تهدف الى فصل شبه جزيرة سيناء عن
مصر ووضعها تحت الادارة الدولية، وتدويل قناة السويس. كما اتاحت
الوثائق التي فتحت بعد خمسين عاما الاطلاع على التفاصيل الكاملة
لخطة الانتشار العسكري للقوات البريطانية في منطقة قناة السويس،
والمعروفة باسم rodeo، التي قامت بوضعها رئاسة الدكتور الاركان
البريطانية للسيطرة على اجزاء كبيرة من الدلتا وبعض ضواحي
القاهرة والاسكندرية، وذلك في حالة حدوث مستجدات خطيرة على
الساحة السياسية المصرية من وجهة النظر البريطانية. ومن امثلة
ذلك قيام تمرد عسكري في صفوف الجيش يؤدي نجاحه الى شيوع حالة من
الفوضى والاضطراب، مما يؤدي الى الحاق الضرر بالمصالح البريطانية
في مصر. تطويق قوات الجيش البريطاني لعدد من قوات البوليس في
مدينة الاسماعيلية في 25 يناير 1952 وابادتهم، احتجاجا على اعمال
الفدائيين في منطقة القناة، ثم ما تبعها في اليوم التالي من
اندلاع الحرائق في القاهرة التي استهدفت بالدرجة الاولى ممتلكات
الاجانب. وقد تعرضت الوثائق البريطانية بصورة تفصيلية للحدثين،
حيث شكلت الحكومة البريطانية لجنة تحقيق للتوصل الى الحقيقة في
احداث 26 يناير، وقدمت هذه اللجنة تقريرا مطولا يتكون من 58
صفحة، اصبح متاحا للباحثين عام 2001 فقط.

ثانيا: الرؤية البريطانية لاحداث الثورة

قبل قيام الثورة بعدة ايام رصدت الوثائق البريطانية الاوضاع
الداخلية المتدهورة، فالملك اصبح هو المسيطر على الامور، وساعد
ضعف الوزارة على التنبؤ بسقوطها، وهو ما حدث في 22 يوليو 1952،
حيث عين نجيب الهلالي رئيسا لها. وقد عكست الوثائق البريطانية في
هذه الفترة القلق من تذمر شباب الضباط داخل الجيش، وانخفاض شعبية
الملك بينهم بسبب اصراره على تعيين ضباط حاشيته في المراكز
المهمة في الجيش، وبرز اسم محمد نجيب الذي رشحه شباب الضباط
لمواجهة مرشح الملك، على اساس انه الشخصية التي يتجمع حولها
هؤلاء الضباط. ولم تستبعد التقارير البريطانية احتمال قيام تمرد
عسكري يؤدي نجاحه الى الفوضى واعمال العنف بواسطة المتطرفين،
خاصة مع سوء الاحوال الاقتصادية، مما قد يستوجب تنفيذ الخطة
rodeo السابق ذكرها.
وفي نفس الوقت حدث اتصال من جانب السفارة البريطانية بالسفارة
الامريكية في القاهرة في 21 يوليو، لابلاغهم بتقديراتهم لخطورة
الموقف داخل الجيش، الا أن الامريكيين ردوا بأن الامر ليس بهذه
الخطورة. وعندما اجرى الملك التغيير الوزاري في 22 يوليو، وتولت
حكومة الهلالي التي عين فيها اسماعيل شرين وزيرا للحربية للتعامل
مع شباب الضباط، صدرت التقارير من السفارة البريطانية بأن الوضع
اصبح مطمئنا. وفي ليلة 23 يوليو فوجيء الجميع بتحرك مجموعة من
رجال الجيش واستيلائهم على القاهرة، وتتبعوا تسلسل الحوادث
وفوجئوا بطاعة رجال البوليس لاوامر قادة الحركة فور قيامها، ثم
توالي تأييدها من جانب قطاعات الجيش المختلفة في سيناء، وكذلك
القوات الجوية المصرية التي اظهرت ذلك بالطيران فوق القاهرة
والاسكندرية، حيث كان الملك والحكومة يقضيان اشهر الصيف. وقد
ارسلت قيادة حركة الجيش صباح الثورة رسالة الى السفارة
البريطانية،من خلال احد اعضاء السفارة الامريكية، بأنهم سيقاومون
اي تدخل بريطاني ضدهم، وأن تلك الحركة مسألة داخلية تماما هدفها
الاساسي هو وضع حد للفساد في البلد. في نفس الوقت سارع كبار رجال
النظام، مثل عمرو باشا ومرتضى المراغي، الى الاتصال بالسفارة
البريطانية لطلب التدخل العسكري البريطاني لقمع الحركة، على اساس
انها مستوحاة من الشيوعيين والاخوان المسلمين، وأن ضباط الحركة
من المتطرفين المعادين للرأسمالية. وكذلك ابلغ «كافري» السفير
الامريكي في مصر «كريسويل» القائم بأعمال السفارة البريطانية، أن
الملك اتصل به تليفونيا عدة مرات منذ الثانية صباح 23 يوليو،
مرددا أن التدخل الاجنبي هو وحدة الذي يمكن أن ينقذه اسرته! وعلق
«كافري» أن الملك وأن لم يطلب صراحة التدخل العسكري البريطاني،
الا أن ذلك كان متضمنا في كلامه. وقد اضاف أن الملك كان في حالة
ذعر شديد، وأنه حاول تهدئته وتشجيعه على مواجهة الموقف، على امل
أن يستمر في موقعه، ولكن في اطار ملكية دستورية.
وقد عكست الوثائق البريطانية الانطباعات البريطانية يومي 23 و 24
يوليو 1952 من مختلف المصادر في مصر، السفارة البريطانية، وقيادة
القوات البريطانية في الشرق الاوسط في منطقة القناة، وردود الفعل
في الخارجية البريطانية ووزارة الحرب في لندن.

وتبلور الموقف البريطاني كما يلي

يوم 23 يوليو:

1- تم رفع استعداد القوات البريطانية في منطقة القناة بهدوء،
ومنعت الطائرات البريطانية من الطيران فوق الدلتا، لعدم اثارة
الشعور المعادي لبريطانيا.

2- الحرص على تجنب اي تحرك استفزازي للقوات المسلحة المصرية من
جانب القوات المسلحة البريطانية، طالما لا يوجد اي تهديد لحياة
وممتلكات البريطانيين او لامن القوات البريطانية في منطقة
القناة.

يوم 24 يوليو:

1- وردت تعليمات من وزارة الخارجية البريطانية بارسال «هاميلتون»
مساعد الملحق العسكري، لمقابلة محمد نجيب لاخطاره بأن الحكومة
البريطانية لا ترغب في التدخل في الشئون الداخلية المصرية، الا
انها لن تتردد في التدخل اذا اعتبرت ذلك ضروريا لحماية ارواح
البريطانيين، لذلك فقد صدرت تعليمات خاصة الى القوات البريطانية
في منطقة القناة لوضعها في حالة الاستعداد، وأن تلك الترتيبات
ليست موجهة للقوات المسلحة المصرية، وخاصة أن ما ورد في بيان
الثورة من أن الجيش المصري سيكون مسئولا عن حماية ارواح وممتلكات
الاجانب قد طمأنهم.

2- تتبعت السفارة البريطانية موقف الملك من خلال السفير
الامريكي، الذي اخبرهم بمقابلة الملك بعد ظهر يوم 23 يوليو، وكيف
كان يشعر بمرارة ضد بريطانيا لانها لم تتدخل عسكريا، وأنه لم يكن
لديه أي بديل الا أن يقبل طلبات قادة حركة الجيش، بما فيها طرد
نجيب الهلالي وتعيين علي ماهر كرئيس وزراء.

3- اصدرت وزارة الحربية تعليمات الى قيادة القوات البريطانية في
الشرق الاوسط المقيمة في منطقة القناة بالاستعداد لتطبيق خطة
odeor، التي ترفع استعداد القوات البريطانية في قاعدة قناة
السويس، وذلك بدون اي اثارة للجيش المصري.

يوم 25 يوليو:

ابلغ السفير الامريكي في القاهرة السفارة البريطانية أن الملك
ارسل له يوم 25 يوليو ما بين الساعة 4، 5 صباحا عدة رسائل، يطلب
فيها طائرة او مركب امريكية ليهرب بها، خاصة بعد أن اعلن كل
الحرس الملكي تأييده لحركة الجيش، وبعد أن وصلته الاخبار بتحرك
قوات من الجيش المصري ودبابات في طريق القاهرة، الاسكندرية،
وأنها على وصول، وأنه يخشى أن يعرف ضباط الحركة عن اتصاله
بالسفارة الامريكية، ولذلك فهو يطلب التدخل البريطاني. وبناء على
ما سبق بدأ البحث عن اقرب السفن العسكرية البريطانية للشواطيء
المصرية، فوجدت سفينتان احداهما على بعد 10 ساعات والثانية على
بعد 6 ساعات، ولكن قائد البحرية البريطانية اوضح انه لا يمكنه
استخدام هذه السفن لهذا الغرض الا بعد استشارة رئيس الوزراء
البريطاني.

يوم 26 يوليو:

توالت الرسائل من الملك الى السفير الامريكي، الذي كان يقوم
بنقلها الى السفارة البريطانية. ففي الساعة الثامنة صباحا ارسل
الملك رسالة من القصر بأن القوات العسكرية المصرية دخلت ارض
القصر بالقوة، وحدث ضرب رصاص. وفي الساعة الحادية عشرة والربع
ابلغه الملك انه اعطى مهلة حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا للتنازل
عن العرش لابنه، وحتى الساعة السادسة بعد الظهر لمغادرة البلاد.
وفي الموعد المحدد غادر الملك فاروق ارض مصر على اليخت الملكي
«المحروسة» وكان «كافري» في وداعه.
وتتضمن الوثائق البريطانية وصفا تفصيليا لاحداث يوم 26 يوليو في
القصر كما رواها السفير الامريكي. وبعد تلك الاحداث الفاصلة عبر
وزير الخارجية البريطانية عن موقف الحكومة البريطانية من
التطورات السريعة التي حدثت في مصر من 23 يوليو الى 26 يوليو،
وقد تلخص في عدم التدخل على اساس أن تلك مشكلة داخلية، وقد اضاف
معلقا أن الحكومة البريطانية كانت دائما ترى ضرورة تطهير مصر من
العناصر الفاسدة في القصر والادارة، حتى يستتب الامر في البلاد.
الا انه اظهر قلقه من نشاط الجيش في القاهرة، ومن الشائعات بأن
بعض الضباط في الحركة لهم علاقات بالاخوان المسلمين، خوفا من
سيطرة عناصر متطرفة على السلطة، ومن هنا فقد كان افضل وضع
بالنسبة لهم هو استمرار وزارة علي ماهر. ويلاحظ أن اهم ما ركزت
عليه التقارير البريطانية هو رصد رد فعل الشعب المؤيد لحركة
الجيش، وذلك من الترحيب والهتافات المؤيدة التي قوبلت بها القوات
المسلحة المصرية لدى دخولها الاسكندرية في 25 يوليو، لحراسة
القنصليات وتأمين الوضع بالمدينة قبل مغادرة الملك. وفور
الاعتراف بنجاح حركة الجيش، بدأت التقارير التي تعيد تقدير
الموقف، ويلاحظ منها مدى تعاظم الدور الامريكي في الموقف، وخاصة
في حالة لجوء بريطانيا الى استخدام القوات العسكرية ضد النظام
الجديد في مصر بتطبيق العملية rodeo. ولقد كان تقدير البريطانيين
أن الرأي العام الامريكي لن يؤيد التدخل العسكري البريطاني خارج
منطقة القناة، بل سيدينه، وحيث أن هذه هي سنة الانتخابات
الامريكية، فمن المتوقع الا تقوم الحكومة الامريكية بتأييد
بريطانيا، ولو معنويا، في هذه الحالة، وهذا يعني الانقسام بين
بريطانيا والولايات المتحدة حول سياسة الغرب في الشرق الاوسط،
مما اعتبره السياسيون البريطانيون كارثة. الا أن الحكومة
البريطانية لم تعترف بسرعة بالنظام الجديد في مصر، وظلت ترقب
الامور بحذر، الى أن صدر من الحكومة الامريكية تصريحا في 3
سبتمبر، اعطى الانطباع باستعدادها لتأييد نظام 23 يوليو طالما
أنه لا يشرك شيوعيين في الحكومة. وهنا بدأ التساؤل في وزارة
الخارجية البريطانية، هل يؤيدوا حركة الجيش؟ وكان ذلك بعد أن
اقيلت وزارة علي ماهر، ثم صدر قانون الاصلاح الزراعي في 9
سبتمبر، الذي حدد الملكية الزراعية بمئتي فدان للفرد وثلاثمئة
للاسرة، وتبعه الاعلان عن توزيع ارض الاصلاح الزراعي على
الفلاحين. وقد قررت الولايات المتحدة الدخول في مفاوضات فورية مع
النظام المصري لتحديد مجال وطبعية التعاون بينهما، على أن تكون
الطلبات محددة فيما يتعلق بالمساعدة الاقتصادية والعسكرية، وتكون
الاخيرة مقتصرة على المساعدة الفنية، اي تلك المتعلقة بالتدريب،
واعتزمت الولايات المتحدة الاعتذار في نفس الوقت عن تقديم السلاح
الى مصر، وحثها على أن تتباحث في ذلك مع بريطانيا التي كانت
مصدرها الاساسي في هذا الشأن، موضحة صعوبة امداد مصر بالسلاح قبل
الوصول الى تسوية سلمية مع اسرائيل.

ثالثا: الصراع بين الثورة والاحتلال البريطاني لمصر

لقد دخلت الثورة المصرية بعد قيامها بعدة اشهر في مفاوضات مع
الحكومة البريطانية تتعلق بالوضع في السودان والجلاء عن مصر،
هاتان القضيتان اللتان ظلتا محورا للحركة الوطنية المصرية منذ
انتهاء الحرب العالمية الاولى، وجرت حولهما مفاوضات متعددة وصلت
الى طريق مسدود.

1- المفاوضات المصرية البريطانية الخاصة بالسودان:
تتضمن الوثائق البريطانية الخاصة بهذا الموضوع تسجيلا تفصيليا
لكل ما دار من محادثات بين المسئولين المصريين والبريطانيين حول
وضع السودان، الى أن تم توقيع اتفاقية السودان في 1953. كما
تتضمن ايضا كل الاتصالات التي تمت بين الجانبين لتنفيذ بنود
الاتفاقية بعد توقيعها. وتكشف الوثائق البريطانية عن الدور الذي
قامت به بريطانيا في انفصال السودان عن مصر، من خلال تقديم الدعم
الى القوى السودانية المنادية بالانفصال، ووضع العراقيل امام
جميع الصيغ الوحدوية التي اقترحتها حكومة الثورة او الصادرة عن
القوى السودانية المؤمنة بفكرة الوحدة بين شطري وادي النيل. وقد
بدأت المفاوضات حول السودان في نهاية عام 1952، وتحديدا بعد قيام
ثورة يوليو بخمسة اشهر، وهذه المفاوضات مسجلة في سلسلة من
الملفات يبلغ عددها 16 ملفا في عام 1952، وقد تم الكشف عن محتوى
هذه الوثائق بصورة كاملة. وقد تم استكمال المفاوضات بين الجانبين
في عام 1953، وهذه المفاوضات مسجلة في 25 ملفا. وبالرغم من مرور
ما يقرب من نصف قرن، الا أن جزءا لا يستهان به من هذه الوثائق
لايزال مغلقا، وهو الجزء المتعلق بالسياسة البريطانية في السودان
اثناء المفاوضات، وموجود في عشرة ملفات.

2- مفاوضات الجلاء عن مصر:

بدأت هذه المفاوضات عام 1953 بعد توقيع اتفاقية السودان مباشرة،
وتكشف الوثائق البريطانية عن التناقض في اهداف كل من الطرفين
المتفاوضين، فقد كان هدف مصر النهائي من هذه المفاوضات هو توقيع
اتفاقية تضمن جلاء القوات البريطانية عن منطقة قناة السويس،
بينما كانت بريطانيا تهدف الى ضم مصر الى التحالف الغربي المناهض
للاتحاد السوفييتي تحت ذريعة الدفاع عن الشرق الاوسط، في محاولة
منها للحصول على غطاء شرعي يضمن بقاء القوات البريطانية في منطقة
القناة. وتكشف الوثائق البريطانية عن وجود اتصالات اسرائيلية
بريطانية من اجل تنسيق المواقف فيما بينهما فيما يتعلق
بالمفاوضات مع مصر. فلقد ابدت اسرائيل في هذه الاتصالات قلقها
العميق من جلاء القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس، وطالبت
بضرورة أن يتم التشاور معها قبل توقيع أن اتفاقية مع مصر، حيث
ظهر أن اسرائيل كانت تعتبر الوجود العسكري البريطاني في منطقة
القناة بمثابة المنطقة العازلة بينها وبين الجيش المصري. وقد تم
الكشف عن جزء من هذه الاتصالات الاسرائيلية، البريطانية، الا أن
هناك العديد من الوثائق التي تتناول هذا الموضوع مغلقة لفترة 50
عاما، واغلبها يشمل الضمانات التي قدمتها بريطانيا لاسرائيل،
خاصة فيما يتعلق بقيام بريطانيا بالتعاون مع الولايات المتحدة
الامريكية بتقديم مبادرة سلام لانهاء الصراع في المنطق.

3- العدوان الثلاثي 1956:

تمثل حرب السويس نقطة فارقة في تاريخ مصر ومنطقة الشرق الاوسط
والعالم، حيث انها الغت تعهدات مصر في اتفاقية الجلاء، فيما
يتعلق باعادة استخدام القوات البريطانية لقاعدة قناة السويس في
حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أن بلدا يكون طرفا في
معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية او تركيا. وفي
نفس الوقت تعتبر هذه الحرب بداية النهاية للوجود الاستعماري
البريطاني، الفرنسي في المنطقة. كما اكد فشلها دور ثورة يوليو
المحوري في قيادة دول المنطقة وتقديم الدعم لحركات التحرر في
المنطقة العربية وفي افريقيا، واصبحت مصر نموذجا يحتذى به في
العالم الثالث لمقاومة السيطرة الاستعمارية وتحقيق الاستقلال.
وتبرز الوثائق البريطانية بالتفصيل قصة حرب السويس من بدايتها
الى نهايتها، وتكشف عن وجود مخطط بريطاني، فرنسي، امريكي لتحجيم
دور مصر الثورة في المنطقة منذ بداية عام 1955. ولقد كان السبب
الرئيسي في وضع ذلك المخحطط هو رفض مصر الانضمام الى سياسة
الاحلاف، التي حاولت الدول الثلاث اقامتها في المنطقة لمواجهة
الاتحاد السوفييتي. وتشير الوثائق بوضوح الى أن قرار جمال عبد
الناصر بتأميم شركة قناة السويس لم يكن السبب الرئيسي لشن
العدوان الثلاثي على مصر، وانما كان الغطاء الذي احتمت به الدول
الثلاث ليوفر لها شرعية شن الحرب. فقد تم الكشف عن وثائق
بريطانية يرجع تاريخها الى عام 1951 تؤكد حق مصر المطلق في تأميم
شركة قناة السويس، لأن ذلك حق سيادي لمصر يتوافق مع ما جاء في
اتفاقية القسطنطينية 1888 الخاصة بقناة السويس. وتكشف الوثائق
تفاصيل التخطيط بين الدول الثلاث المعتدية الذي لم يتم، كما اصبح
معروفا، عن طريق الوسائل الدبلوماسية المعتادة، وانما تم عن طريق
اعلى مراكز صنع القرار في الدول الثلاث، اي رؤساء الوزارة، حيث
لم يكن سفراء الدول الثلاث في الخارج على علم بهذه الخطط. وكذلك
اختفاء الوثيقة الرئيسية التي تم التوقيع عليها في فرنسا بين
رؤساء الحكومات الثلاث بشأن العدوان على مصر، لأن رئيس وزراء
اسرائيل اصر على الاحتفاظ بها في تل ابيب، خشية أن تتركه فرنسا
وبريطانيا وحده في مواجهة مصر، كما اعلن عند نشر اسرائيل هذه
الوثيقة. ولقد تناولت الوثائق البريطانية ايضا حالة العزلة التي
وجدت الحكومة البريطانية نفسها فيها داخليا وخارجيا اثناء حرب
السويس، فقد عارض غالبية الشعب البريطاني هذه الحملة العسكرية،
في الوقت الذي نجحت فيه مصر في حشد تأييد الرأي العام العالمي
لموقفها، كما اتضح ايضا وجود مصلحة لبعض القوى الاقليمية، بجانب
اسرائيل، في القضاء على الثورة المصرية، فقد كان نورى السعيد،
رئيس وزراء العراق، احد ابرز مؤيدي الهجوم العسكري على مصر، املا
في ايجاد نظام بديل فيها يؤيد سياسته في اقامة تحالفات مع الدول
الاستعمارية. وترصد وثائق وزارة الدفاع البريطانية بصورة تفصيلية
احداث العدوان العسكري على مصر، بدءا من الهجوم الاسرائيلي على
سيناء في التاسع والعشرين من اكتوبر، وعدم قدرة اسرائيل على
تحقيق اي نصر عسكري حاسم حتى يوم 31 اكتوبر، وهو يوم صدور القرار
المصري بالانسحاب من سيناء، ثم الهجوم على المطارات والقواعد
الجوية املا في اخراج السلاح الجوي المصري من المعركة في الاوقات
الاولى من الحرب، ثم عملية الانزال البري التي قامت بها القوات
الفرنسية والبريطانية في بورسعيد، والمقاومة الباسلة التي قام
بها الجيش والشعب المصري في مواجهة القوات المعتدية.

رابعا: الثورة المصرية كمصدر تهديد للنفوذ البريطاني والمصالح
الغربية

خرجت مصر بانتصار سياسي في 1956 بعد فشل العدوان الثلاثي عليها،
وهنا بدأت مخططات جديدة بهدف تحقيق ما عجز السلاح عن فرضه،
فأصبحت منطقة الشرق الاوسط محور صراع سياسي ضار بين الغرب وقوى
التحرر العربية. وهنا تظهر قيمة الوثائق البريطانية فهي تكشف تلك
المخططات وتسجل تفاصيل ذلك الصراع، وبصفة خاصة خلال معركة
الاحلاف العسكرية، وبعد تحقيق الوحدة المصرية السورية، وخلال
مرحلة المد التحرري العربي الذي ساندته مصر بكل قواها في اليمن
والخليج العربي وجنوب شبه الجزيرة العربية. وقد وصل الامر في
منتصف الستينيات الى التآمر لتوجيه ضربة عسكرية من اجل القضاء
على نظام عبد الناصر تماما، ولما لم يتم ذلك، عندما رفض الشعب
العربي الهزيمة بعد ضربة يونيو 1967، استمر العداء بين مصر
والغرب الذي القى بثقله بجانب اسرائيل سياسيا وعسكريا واقتصاديا،
وذلك حتى رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970.
وسوف نتوقف هنا عند نقاط اساسية في هذه المرحلة لنستعرض ما تعكسه
الوثائق البريطانية بصددها:

الوحدة المصرية السورية 1958، 1961،
حركات التحرر العربي والافريقي،
عدوان 5 يونيو 1967.

1- الوحدة المصرية السورية 1958- 1960:

بالرغم من استمرار قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وبريطانيا
منذ العدوان الثلاثي في 1956، الا أن الوثائق البريطانية تحتوي
على معلومات دقيقة توضح اهتمام بريطانيا والغرب عموما بتتبع
عملية الوحدة، كما تشكف، وهو الاهم، مدى خطورة الوحدة المصرية
السورية ليس فقط على المصالح البريطانية والغربية في منطقة الشرق
الاوسط، بل ايضا على مصالح الكتلة الشرقية التي وقفت من الوحدة
منذ البداية موقفا معاديا. واخطر ما في الوثائق البريطانية
المتعلقة بالوحدة المصرية السورية التفاصيل التي ذكرت عن مخططات
الدول الغربية لمنع انضمام اي من الدول العربية الاخرى الى دولة
الوحدة، ومختلف الوسائل التي استخدمت من اجل تحقيق هذا الهدف،
فلقد قدم الغرب الدعم المالي والعسكري للدول المجاورة لمصر
وسوريا، بالاضافة الى تغذية شكوك جميع دول المنطقة حول الدولة
العربية الوليدة، فلقد كانت بريطانيا هي المحرك الرئيسي لاثارة
مخاوف كل من العراق ولبنان والاردن من احتمال تعرضهم لهجون عسكري
من جانب الجمهورية العربية المتحدة. وتكشف الوثائق البريطانية
اسرار حملة الدعاية المضادة لدولة الوحدة التي لم يكن لها اساس
من الصحة، وانما كانت تهدف الى تشويه صورة الجمهورية العربية
المتحدة ورئيسها امام الجماهير العربية. ومما يثير مزيد من
الشكوك حول الدور المشبوه الذي قام به الغرب لاحباط تجربة الوحدة
بين مصر وسوريا وابعاد الدول العربية الاخرى عنها، هو وجود 50
ملفا مغلقا من هذه الوثائق لمدة خمسين عاما، استثناء من قاعدة
فتح الوثائق السياسية بعد ثلاثين عاما، بالاضافة الى وجود 4
ملفات مغلقة لمدة قرن من الزمان! ومما يدل على مدى الانزعاج الذي
سببته الوحدة المصرية السورية للقوى الاستعمارية هو أن معظم
الوثائق البريطانية المتعلقة بها محفوظة تحت اسم «ازمة الشرق
الاوسط». وبالطبع لقد حظى انفصال سوريا عن مصر وانتهاء تجرب
الوحدة الاولى في التاريخ الحديث في 28 سبتمبر 1961 بمساحة كبيرة
من الوثائق البريطانية، فلقد كان هناك رصد دقيق لكل جوانب الوضع
الداخلي في كل من مصر وسوريا، كما قامت بريطانيا بتبني مطالب بعض
الفئات السورية التي اضيرت من القوانين الاشتراكية، وفي النهاية
تشير هذه الوثائق الى أن انفصال سوريا عن مصر يمثل ضربة شديدة
للفكر الثوري في المنطقة، والتي كانت ثورة يوليو في طليعته.

2- حركات التحرر العربي والافريقي:

احدثت ثورة يوليو انقلابا في خريطة المنطقة العربية والقارة
الافريقية، من خلال قيامها بمساعدة حركات التحرر ضد الاستعمار،
مما اثار حفيظة الدول الاستعمارية الغربية ودعاها للتكتل لضرب
الثورة المصرية وتحجيم نفوذها المتزايد، سواء في الوطن العربي او
افريقيا او في حركة عدم الانحياز. وتقدم الوثائق البريطانية رصدا
دقيقا للمساعدات التي قدمتها مصر لحركات التحرر في المنطقة
العربية وافريقيا والعالم الثالث، ويبرز دور مصر في مساعدة تونس
والمغرب لنيل استقلالهما في منتصف الخمسينيات، ثم الدور المصري
الحاسم في مساندة الثورة الجزائرية، والذي كان احد اسباب تآمر
فرنسا ضد مصر في عدوان 1956، حيث كانت مصر تمد الثورة الجزائرية
بالسلاح والاموال، اضافة الى الدعم الاعلامي، واستضافة المناضلين
الجزائريين في القاهرة. وتحتل مساندة مصر للثورة اليمنية مساحة
كبيرة من الوثائق البريطانية المتعلقة بمصر في بداية الستينيات،
نظرا لاهمية موقع اليمن الاستراتيجي في جنوب البحر الاحمر وقربه
من منابع النفط في الخليج العربي، اضافة الى حجم الدعم الذي
قدمته مصر، حيث انها كانت المرة الاولى التي تخرج فيها قوات
مصرية بهذا الحجم لمساعدة دولة عربية. وتذكر الوثائق البريطانية
التي تم الكشف عنها أن المساعدات الضخمة التي قدمتها مصر للثورة
اليمنية تجاوزت الخطوط الحمراء للقوى الاستعمارية، لانها كانت
بمثابة تهديد مباشر وصريح لاهم مصالح القوى الغربية في المنطقة،
والتي تتمثل في النفط والتحكم في الممرات المائية. وقد حفزهم ذلك
الى محاولة استنزاف قدرات مصر الاقتصادية والعسكرية في اليمن، من
خلال اطالة زمن الحرب. وقد لعبت الحملات الدعائية البريطانية
دورا كبيرا في تأجيج نار الخلافات العربية، العربية من خلال
تشويش صورة مصر، وابرازها بمظهر الساعي للهيمنة على المنطقة
العربية باسرها، وقلب انظمة الحكم فيها بما يتوافق مع سياساتها
هي. ولم يتم الكشف بعد عن جزء كبير من وثائق حرب اليمن، خاصة تلك
التي تتعلق بالسياسة البريطانية تجاه اليمن وجنوب شبه الجزيرة
العربية، او التي تتعلق بالمساعدات العسكرية التي قدمتها
المخابرات البريطانية بالتعاون مع جهات اخرى للقوى الرافضة للدور
المصري في جنوب شبه الجزيرة العربية. كما تذكر الوثائق
البريطانية أن مساعدة مصر لحركات التحرر في القارة الافريقية
والعالم الثالث ادى الى تنامي علاقات مصر الخارجية بصورة كبيرة،
مما وفر لها دعما سياسية هائلا في معظم قضاياها. كما أن هذا
الدور، تحديدا، مكنها من اجهاض معظم المحاولات الاسرائيلية
المتكررة لمد نفوذها في دول القارة الافريقية لتطويق الدول
العربية من جهة الجنوب. وتقدم الوثائق البريطانية استعراضا شاملا
لعلاقات مصر الخارجية مع القارة الافريقية ودول العالم الثالث في
جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية. كما تسجل الوثائق
تفاصيل المفاوضات المصرية البريطانية المتعلقة بعودة العلاقات
الدبلوماسية بينهما في عام 1959، خاصة ما يتعلق بمطالب مصر
افتتاح بعض القنصليات لها في افريقيا ومنطقة الخليج العربي، وكيف
أن الخلاف في هذه النقطة قد عرقل استئناف العلاقات بين البلدين
لمدة تقترب من العامين، الى أن تم التوصل في نهاية عام 1960 الى
اتفاق يسمح لمصر باقامة قنصليات لها في كل من نيروبي ودار السلام
وفري تاون والكويت. كما ابرزت الوثائق زيارات جمال عبد الناصر
للدول الافريقية، والاستقبالات الشعبية الحافلة التي حظى بها
خلالها، ومن ابرز الامثلة على ذلك هو زياراته لكل من السودان عام
1960، وغينيا وغانا عام 1965.

3- عدوان 5 يونيو 1967:

بالرغم من انقضاء ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما على حرب يونيو
1967، الا أنه لم يتم الكشف عن كثير من الوثائق البريطانية
المتعلقة بها، لأن غالبيتها مصنف تحت بند سري للغاية ويتطلب 50
عاما للكشف عنه. ان الوثائق المتاحة للاطلاع هي فقط المتعلقة
بمقدمات هذا العدوان، بالاضافة الى سرد يومي لتفاصيل العمليات
العسكرية خلال ايام الحرب، ثم بعض المحادثات السياسية التي جرت
بعد انتهاء العمليات العسكرية، خاصة بين الدول الكبرى، واسفرت عن
قرار مجلس الامن رقم 242. وبالرغم من أن وثائق عام 1967 لم يتم
الكشف عن الجزء الاكبر منها، الا أن هناك بعض الوثائق التي يرجع
تاريخها الى نهاية عقد الخمسينيات، تلقي مزيدا من الضوء على
الهدف الاساسي الذي سعت اليه وعملت من اجله القوى الاستعمارية،
وهو القضاء على الثورة المصرية. ومن اخطر تلك الوثائق المذكرة
التي قدمها «جوليان امري» مساعد وزير الدفاع البريطاني، عام 1958
الى رئيس الوزراء الذي صدق عليها، ثم تم الرجوع اليها مرة اخرى
في عام 1966 اثناء المحادثات الامريكية البريطانية عن الشرق
الاوسط في ذلك الوقت. وهذه المذكرة تتضمن مجموعة من الخيارات
للتعامل مع نظام جمال عبد الناصر، وانتهت الى أن السبيل الوحيد
لضمان المصالح البريطانية والغربية في منطقة الشرق الاوسط هو
التخلص من جمال عبد الناصر من خلال استخدام الوسائل العسكرية.
وتمثل هذه المذكرة الاساس الذي ارتكزت عليه السياسة البريطانية
تجاه مصر خلال العشر سنوات التالية. وقد سجلت الوثائق البريطانية
بالتفصيل الموقف السياسي في مصر في اعقاب عدوان 5 يونيو، وخاصة
قرار جمال عبد الناصر بالتنحي عن الحكم، ورد الفعل الهائل من قبل
الجماهير العربية برفض الاستقالة ومطالبته بالعودة مرة اخرى من
اجل ازالة اثار العدوان. كما رصدت تقارير السفارة البريطانية في
الخرطوم الاستقبال منقطع النظير من قبل الجماهير السودانية
للرئيس عبد الناصر عند زيارته للمدينة لحضور مؤتمر القمة العربي
الذي عقد في اغسطس عام 1967، اي بعد شهرين فقط من العدوان. وترصد
الوثائق الجهود التي بذلتها مصر لازالة اثار هذا العدوان، من
خلال اعادة بناء الجيش المصري، حيث يذكر احد تقارير السفارة
البريطانية في يونيو 1968 أن الجيش المصري اصبح اكثر قوة وتنظيما
مما كان عليه قبل عدوان يونيو 1967. كما اولت هذه الوثائق اهمية
كبرى لحرب الاستنزاف، ليس فقط من خلال متابعة العمليات العسكرية
المتبادلة بين الجانبين، وانما من خلال دراسة اثر هذه الحرب
الاقتصادية والنفسية على كل من مصر واسرائيل، وموقف الدول
العربية منها. وقد تابعت الوثائق البريطانية الموقف الاقتصادي في
مصر من خلال تقارير نصف شهرية، واكدت هذه التقارير صمود الشعب
المصري خلف قيادته السياسية بالرغم من الصعوبات الاقتصادية الجمة
التي يواجهها. كما أنها رصدت التضحيات الغالية التي بذلها الشعب
في سبيل الاعداد لمعركة التحرير. واخيرا، تم فتح بعض وثائق عامي
1970 و 1971 للاطلاع، وهي التي تتناول الموقف في منطقة الشرق
الاوسط والصراع العربي الاسرائيلي بصفة عامة، الا انها ركزت بصفة
خاصة على الاحداث المأسوية التي شهدها الاردن والتي تعرف باسم
«احداث ايلول الاسود» تعبيرا عن المصادمات الدموية التي حدثت بين
الفصائل الفلسطينية والجيش الاردني. وترصد الوثائق البريطانية
هذه المأساة منذ بدايتها، لان بريطانيا لم تكن بعيدة عن مسار
الاحداث، فقد كان اعتقال السلطات البريطانية للفدائية الفلسطينية
ليلى خالد اثر محاولتها اختطاف طائرة اسرائيلية هو الدافع
لمجموعة فدائية فلسطينية لاختطاف ثلاث طائرات والهبوط بها في
قاعدة جوية اردنية وتفجيرها بعد اطلاق سراح جميع ركابها

ليست هناك تعليقات: